شخصية الباحث في البحث: متى وكيف؟

شخصية الباحث

توطئة:

" ظهور شخصية الباحث لا يكون بالإكثار من قول: "قلت" أو باستعمال ضمير الجمع وتفخيم الذات، وإنما يكون بحسن العرض ، وطريقة التناول، والاختيار بذكر الحيثيات القوية، وحسن استعماله لمنهاج النظر وطريقة البحث". (بازمول، 2015).

     لا يعتبر البحث تجميعاً للمواد العلمية والمعلومات دون قراءتها وفهمها وتمحيصها وفق المعايير العلمية والمنهجية الأكاديمية لكتابة البحوث.  وهذا ما يجب أن يؤمن به الباحث كأول خطوة من الخطوات التي يقوم بها في بحثه.  فكلما كان الباحث مدركاً لأهمية التراث العلمي والدراسات السابقة التي يجمعها كلما استطاع توظيفها في البحث بشكل أفضل. والذي لا يخفى على الكثير من الباحثين أن العلم تراكمي فلا شيء ينتج من غير مواد حتى وإن كانت خام تبعا لقانون "المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم" خصوصا فيما يتعلق بالدراسات الإنسانية والاجتماعية.

ولو استحضرنا مفهوم الأطروحة باللغة العربية لوجدناها ترتبط ارتباطاً مباشراً بشخصية الباحث في البحث. والتي تعني بأن يطرح الباحث شيئاً في البحث طرحاً من عنده ومن قوله وبناة أفكاره معتمداً على من سبقوه في مجاله. بينما باللغة الانجليزية Thesis تعني بأن يكون للباحث موقفاً تجاه قضيةٍ ما يتبناه ويدافع عنه دفاعاً علمياً بموضوعية دون تحيز.

وطلبة البحث والدراسات العليا هم المعنيون بأطروحاتهم وبحوثهم ولذلك يتمثل الدور الأساسي في موقف كل باحث تجاه قضية البحث المطروحة(مشكلة البحث والفجوة البحثية التي يطرحها). ولهذا لابد من ظهور شخصية الباحث في بحثه بدءاً من اختيار الفكرة البحثية وتحديد موضوع البحث حتى يصل إلى خاتمة بحثه.

ومع أن هؤلاء الباحثين قد انطلقوا من زاوية معينة للنظر للبحث إلا أنهم قد أغفلوا جانب أساسي ومهم في ذلك وهو دور الباحث الرئيس في البحث.

والمشكلة التي تواجه بعض الباحثين تكمن في أنهم يستصعبون كيفية ظهور شخصياتهم في بحوثهم وكأن الأمر معجزة بحثية أو صعوبة غير قابلة للحل. كما أن هناك فهماً مغلوطاً لدى البعض من الباحثين يتمثل في أن ظهور شخصية الباحث في بحثه يؤثر في موضوعية البحث. كما أن بعض المشرفين قد لا يقبل من الباحث أن يكتب رأيه في البحث ويقول له من أين لك هذا؟؟؟.  ولهذا يغلب في بحوثنا استخدام "قام الباحث" و توصل البحث" وغابت شخصية الباحث ولم تظهر مفاهيمه وتفسيراته لما يدور في بحثه.  ومن وجهة نظري فإن ظهور شخصية الباحث عملية ليست بالصعبة،  كما أنها لا تحتاج لمهارات تعلم معقدة. بل أن كل ما يحتاجه الباحث هو إدراك وفهم لأدواره  تجاه ما يطرح ويكتب وكذلك استقراء علمي لما يكتبه الآخرون في مجال بحوثهم عندما يقرأ عنهم أو يستشهد ويقتبس منهم. 

في أي جزء تظهر شخصية الباحث؟

الباحث المتميز تظهر شخصيته وصوته العلمي من خلال قدرته التحليلية والنقدية أثناء مراحل جمعه مراجع بحثه وكذلك أثناء مراحل كتابته لبحثه لكل فصل من فصول البحث بدءاً بالمقدمة ومروراً بالأدب البحثي والجراسات السابقة ومنهجية وتصميم البحث وأدوات جمع البيانات وعرض النتائج وتحليلها ومناقشتها.

ولهذا فإنني أرى بأن شخصية الباحث تظهر في الخطوات البحثية التالية:

1-     اختيار مجال البحث وموضوعه: ينبغي أن يختار الباحث موضوعا يستطيع أن يكتب فيه من خلال طرح رأيه وخبراته بطريقة علمية يستطيع توظيفها وربطها بخبرات الآخرين من خلال بحوثهم ودراساتهم. ولهذا أنصح الباحثين بأن تكون عملية اختيار الموضوع مبنية عن قناعة وإدراك بأن هذا المجال البحثي سيكون هو تخصص الباحث الذي من خلاله يوظف مهاراته البحثية والعلمية والمنهجية خلال سنوات دراسته العلمية وكذلك فيما بعد الدراسة أثناء حياته العملية والبحثية المستقبلية.

2-     القراءة العلمية وتحديد المراجع: تظهر شخصية الباحث هنا عند تحديد القراءات البحثية في مصادر البحوث ومراجعها بحيث ينتقي من البحوث ما يراعي المنهجية العلمية والمعايير التي تبنى عليها والتي تهم مجال بحثه.

3-     الاقتباس والاستشهاد: تظهر شخصية الباحث في هذه الجزئية بطريقتين. الأولى عند الاقتباس والثانية عند كتابة الاقتباس والاستشهاد به في بحثه. فينبغي أن يراعي الباحث ما سيقتبسه وأنه يخدم الفكرة البحثية التي يناقشها في بحثه إما موافقة أو معارضة ويكون لها علاقة مباشرة بالنقطة التي يوظف النص المقتبس فيها. كما ينبغي على الباحث أن يحلل كل ما يقتبسه عندما يورده ولا يورد شيء إلا وهو يربطه ربطاً علمياً ويوظفه توظيفاً سليماً. فالباحث ليس ناقلاً للمعلومات دون نقاشها واستعراضها استعراضاً علمياً.

4-     الكتابة العلمية: تتميز كتابة البحث العلمي بمراعاتها للعلمية والمنهجية البحثية. ومع هذا فإن شخصية الباحث تعتبر من أهم المعايير التي ينبغي أن تظهر في كل تفاصيل البحث وجوانبه. بل إنها جزء لا يتجزأ من المنهجية العلمية للبحث. فإذا غابت شخصية الباحث في كل فقرة من فقرات بحثه فإن ذلك يعتبر خللاً في البحث, مما يجعل البحث يتسم بالوصفية والسرد الموضوعي دون عملية الربط العلمي والعمق التحليلي لكل ما يكتبه الباحث.

 وسأوضح بمثال تغيب فيه شخصية الباحث ثم أعدل المثال بكيف يمكن أن تظهر شخصيته فيه.

المثال: مكون من فكرة أوردها الباحث في بحثه دون ظهور شخصيته البحثية:

"تعود بداية التعليم في السعودية رسمياً إلى عام 1932 ميلادية، وقبل ذلك كانت محدودة على مايسمى الكتاتيب. حالياً، يبدأ التعليم العام في السعودية من التعليم الابتدائي مرورا بالمتوسطة حتى التعليم الثانوي وهي متاحة لجميع المقيمين في المملكة العربية السعودية. ومع ازدهار الحياة الاجتماعية والإقصادية في المملكة, أصبحت ثقافة التعليم المدرسي منتشرة عند أغلب المواطنين".

تعديل المثال لتظهر فيه شخصية الباحث:

"تعود بداية التعليم في السعودية رسمياً إلى عام 1932 ميلادية، وقبل ذلك كانت محدودة على مايسمى الكتاتيب. حالياً، يبدأ التعليم العام في السعودية من التعليم الابتدائي مرورا بالمتوسطة حتى التعليم الثانوي وهي متاحة لجميع المقيمين في المملكة العربية السعودية. ومع ازدهار الحياة الاجتماعية والإقصادية في المملكة, أصبحت ثقافة التعليم المدرسي منتشرة عند أغلب المواطنين". والملاحظ لذلك الانتشار يرى بأن جهود المملكة العربية السعودية لم تكن بمعزل عن خطط التنمية والتي جعلت الدولة في مقدمتها الاهتمام بالتعليم من حيث مواكبته لكافة التطورات والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها العالم. كان اهتمام الدولة بالتعليم نتيجة للتغييرات العالمية المتسارعة ولكون المملكة تحتل مركزاً متقدماً بين دول العشرين وتعتلي منظمة الأوبك، كما تقود العالم نحو اقتصاد المعرفة من خلال الميزانيات وخطط التنمية وتطوير التعليم.............................

فالبحث ليس فقط إيراد للأقوال والاستشهادات دون نقدها أو تحليلها أو ربطها بغيرها.   

5-     مناقشة مجتمع البحث: يكتب بعض الباحثين مجتمع البحث بطريقة وصفية بحيث يسرد ما يرى به سردا موضوعيا أو في هيئة تعداد نقطي. مثال على ذلك:

قرأت بحثاً كتب الباحث أهداف رياض الأطفال في تعداد نقطي فقط، ثم انتقل للفقرة التي تليها دون أن يتحدث عن الأهداف التي أوردها. وهنا نجد أن الباحث التزم بالتوثيق العلمي لكنه فقط سرد تلك الأهداف دون أن يظهر شخصيته البحثية والتخصصية من خلال الرابط والتحليل والاستقراء لها.

المثال:

"- أهداف رياض الأطفال

يري عدنان مصلح أن هناك أهدافاً تربوية  منشودة لمؤسسات رياض الأطفال تتلخص في (الفايز 1418هـ، ص6-7):

§        أن تنمي شعور الطفل بالثقة في نفسه وفي الآخرين وتشبع حاجاته إلى الاستقلال.

§        أن توفر للطفل المواد المناسبة التي يتمكن بواسطتها من استكشاف محيط بيئته.

§        أن تنمي في الطفل رغبته للعيش مع الآخرين وتقديره لذاته.

§       أن تساعد الطفل على التكيف الاجتماعي وتهيئ لديه القدرة على التعبير عن أحاسيسه وشعوره.

§       أن تملأ نفس الأطفال بحب كل ما هو جميل في الحياة".

تعديل المثال لتظهر فيه شخصية الباحث:

المفترض أن يعلق الباحث على الأهداف بعد أن يوردها ما يلي(على سبيل المثال):

والمتأمل لأهداف رياض الأطفال يرى بأنها تعتمد هلى الأهداف الوطنية العامة للتعليم في المملكة والتي تسعى لتنشئة الفرد ليكون مواطناً صالحا. وقد تنوعت الأهداف السابقة لتشمل مراحل نمو للتلاميذ في هذه المرحلة والتي تشمل الأهداف الوجدانية والسلوكية والمعرفية. وتتناغم طبيعة الأهداف مع طبيعة المرحلة لتي يمر بها التعليم في المنطقة...............................

6-     مناقشة التراث العلمي:

يرى البعض من الباحثين أن هذا الفصل هو تجميع لما تمت كتابته حول موضوع البحث ومجاله بطريقة علمية دون إبداء رأي الباحث على ما يكتب. ويعد هذا فهماً خاطئاً. والصواب هو أن يظهر الباحث شخصيته في كل فقرة يكتبها من خلال الاستراتيجية التالية:

(ن)قطة بحثية P)oint)

(ش)رح لها E)xplain)

(ا)ثباتها بشواهد E)vidence)

(ر)بطها بالأدب البحثي L)ink)

ويطلق على هذه الاستراتيجية باللغة الإنجليزية استراتيجية PEEL  الحرف الأول من كل كلمة إنجليزية، أو كما ترجمتها واصطلحت استراتيجية نشار الحرف الأول من كل كلمة عربية ببداية الأسطر أعلاه.

7-      كتابة النتائج والتوصيات ومناقشتها:

كتابة النتائج واستعراضها ثم تفسيرها أيضاً ليست فقط سرداً للنتائج بل يجب أن تظهر مع كل نتيجة يوردها الباحث من خلال عرضه لنتائج بحثه. وفي هذا الفصل ينبغي للباحث أن يستعرض النتائج باتباع التالي مع كل نتيجة يناقشها لتظهر شخصيته في هذا الفصل:

·       كتابة النتيجة والبيانات وهو ما يسمى بصوت النتائج

·       ربط النتيجة والبيانات بالأدب البحثي السابق وهو ما يسمى بصوت الدراسات السابقة.

·       ربط النتيجة والدراسات السابقة بخبراته وإضافاته البحثية وهو ما يسمى بصوت الباحث.

كيف تتم محاكمة شخصية الباحث في بحثه؟

يتم الحكم على ظهور شخصية الباحث في بحثه من خلال التالي:

ü    قوة المراجع وعلمتيها

ü    منهجية التوثيق للمراجع

ü    مناقشة وتحليل ما يورده من اقتباسات وشواهد

ü    الربط فيما بين الأقوال تشابهاً أو اختلافاً.

ü    النقد المبرر والمبني على معايير منهجية بحثية وتخصصية.

ü    الالتزام بأخلاقيات البحث في القبول والرفض وأسلوب الكتابة العلمية.

ولهذا ينبغي أن تصقل برامج الدراسات العليا الباحثين لممارسة الكتابة الأكاديمية والنقد العلمي من خلال التكليفات البحثية التي يقومون بها خلال سنوات دراستهم المنهجية وكذلك على المشرفين إتاحة الفرصة لطلبتهم لإبراز ملكاتهم العلمية ومهاراتهم النقدية وشخصياتهم العلمية في بحوثهم سواءً بمرحلة الماجستير أو الدكتوراة.

خاتمة:

ظهور شخصية الباحث ليست مجموعة معارف وخطوات يتبعها الباحث لتكون ذلك في بحثه، بل هي مجموعة من الإجراءات التي يقوم بها ويوظفها ليصطبغ البحث بجودة موقف الباحث العلمي الذي يبرر ويحلل ويفسر ويربط وينقد وفق المعايير العلمية للبحوث وأخلاقيات كتابة الرسائل العلمية.